الحمد لله الذي اصطفى لنفسِه صفوةً من خلقِه خصَّهم بأحبِّ الأخلاقِ إليه.
وأقرَبِها من الزُّلْفى لديْه, حبَّبَهم إلى الخلقِ وحبَّبَ الخلقَ إليهم فحبَّبُوا الخلقَ إليه، وصلى الله وسلم وبارك علَى مَنْ عَنْه بلَّغ وشَرَع, وبأمره قام بالحقِّ وصَدَع, سيدِنا محمدٍ رسولِ الله.
صاحبِ اللواءِ المعقودِ, والحوضِ المورودِ, والمقامِ المحمودِ, والصراطِ الممدودِ, وعلى آله وأصحابه أُولِي النُّهَى, وعلى مَنْ تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم اللِّقا.
وبعد, فقد جاء في (سير أعلام النبلاء) للذهبي في ترجمة مالك بن دينار -رحمه الله- ما يلي:
"قِيْلَ: دَخَلَ عَلَيْهِ لِصٌّ, فَمَا وَجَدَ مَا يَأْخُذُ, فَنَادَاهُ مَالِكٌ: لَمْ تَجِدْ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا, فَتَرغَبُ فِي شَيْءٍ مِنَ الآخِرَةِ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: تَوَضَّأْ, وَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ. فَفَعَلَ, ثُمَّ جَلَسَ, وَخَرَجَ إِلَى المَسْجِدِ, فَسُئِلَ: مَنْ ذَا؟ قَالَ: جَاءَ لِيَسرِقَ, فَسَرَقْنَاهُ".
تعبيرٌ مُطْرِبٌ عجيبٌ, ومَفْهومٌ -لو تعلمون- عظيمٌ؛ أنْ يُدركَ أهلُ المعرفةِ باللهِ دورَهم في إرشادِ الغاوي وهدايةِ الضالِّ, ومُرَاغَمةِ الشياطينِ لاستنقاذِ الخلقِ مِنْ أيديهم.
إنها الطبيعةُ التنفيذيةُ -كما أسْماها شيخُنا البهيُّ الخولي رحمه الله- لأهلِ العلمِ بالله وأهلِ المعرفةِ والتحقُّقِ بالإسلامِ الذين عرفوا أنَّ أشرفَ الأعمالِ عملُ الأنبياء!
وهل كان عملُ الأنبياءِ -على حدِّ تعبير ابن الجوزي رحمه الله- إلاَّ مُعاناةَ الخلق! ودعوتَهم إلى الحقِّ والسَّيْرَ بهم إلى صلاح الآخرة والأولى.
إن الإسلام قد أرْسى أهمَّ سببٍ للسعادةِ أهملتْه المذاهبُ الوضعيةُ, وغفلتْ عنه الفلسفاتُ الإنسانيةُ, وضيَّعه محرِّفو الأديان السابقة.
وهو تحقيقُ المصالحةِ بين المادةِ والرُّوح, باعتبارِهما جناحي الطائرِ الذي استُخْلِف في الأرض؛ ليَعْمُرَها بالرُّوحِ الصافيةِ والقِيمِ الفاضلةِ والعقلِ الرشيدِ والقوَّةِ المنتِجةِ والعلمِ الهادي.
مؤكدًا أن الفلاحَ في القيامِ بهذه المهمةِ مرهونٌ بالتزكية {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9, 10].
لقد جاء هذا المنهاجُ الإسلاميُّ الحكيمُ, فسقى بهذا الهدْي الكريم الرائق أمةً من المتخلفين عن رَكْبِ الحضارة، المتخبِّطين في ظلماتِ الجهلِ.
فإذا بها تغدو صانعةَ حضارةٍ راشدةٍ, ورائدةَ خيرٍ وهداية, تبسُط يدَها الحانيةَ -التي غلَّتْها القسوةُ مِنْ قبلُ- إلى الدنيا بِقِيَمِ الحقِّ والخير والرحمة والسماحة والفضيلة.
تملأ بها المشارقَ والمغاربَ, وتقدِّمُ للبشريةِ نموذجًا عاليًا للإنسانية في أسْمَى صورها ومعانيها, فتنجذبُ إليها النفوسُ, وتهْوِي إليها الأفئِدة.
فإذا بدولةِ الحقِّ والعدلِ والقِيَمِ تمُدُّ ظلالَها الوارفةَ من بلاد الصين شرقًا حتى جنوب أوربا غربًا.
وأزعمُ أن القيمَ الروحية النبيلة التي حملها الراشدون من الدعاة عملًا وتطبيقًا وسلوكًا كانت أقوى المفاتيح التي فتحتْ أقفالَ القلوبِ ومغاليقَ النفوسِ, وكان ضوءُها أسطعَ الأضواءِ التي أزالتْ غياباتِ الظلمِ والظلام.
وكانت حرارتُها الدافئةُ هي التي فتَّتتْ كثافةَ الماديةِ الطاغية {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23].
وإذا كان السائرُ إلى الله يحتاج إلى الخلْوةِ بربِّه ليجددَ إيمانَه بالذكر والقيام والقرآن والمناجاة {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} [الرعد: 28].
فإنه لا ينبغي أن تستغرقَه النفس عن السَّعْي لنفعِ الغير, أو أنْ يجعلَ العزلةَ غايةً ومنهاجًا لا إنتاجَ له خارجَ حدود الذات.
بل ينبغي أن يقدمَ زكاةَ هذا اليقينِ والعلمِ والنورِ؛ دعوةً للخلق وحركةً بالرسالة وتصحيحًا للعِوَج في القِيَمِ والمفاهيمِ والأنشطة.
وأخذًا بيدِ الناس إلى الله, وجهادًا بالقرآن والسُّنَّة لضبطِ حركةِ الحياةِ ومواجهةِ الماديةِ اللاهثةِ {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان: 52].
كيف لا وأسعدُ الخلقِ بالحقِّ من الأنبياءِ والأولياءِ والعلماءِ والصُّلَحاء ما بلغوا عَاليَ الدرجات وسَنِيَّ المراتبِ إلا بهذا الجهادِ في سبيلِ دعوةِ الناس {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33].
وأعلن النبيُّ الخاتمُ أنَّ هذا سبيلُه وسبيلُ مَنْ تَبِعه {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
وليس الرَّبَّانيُّ هو ذلك الشخصَ المستغرِقَ في الأذكارِ والأوْرادِ المشتغلَ بإصلاحِ نفسِه وسلامةِ قلبِه فحسْب, بل هو الذي يكادُ يبخَع نفسَه لما يرى من فسادِ الناسِ.
والذي يغلبُه الإشفاقُ على الخلقِ, فيبذلُ نفسَه وعلمَه ووقتَه ومالَه وجهدَه في إسعادِهم وتعليمِهم؛ لإنقاذِهم من أنفسِهم ومن شياطينِ الإنسِ والجنِّ, والذي يجاهدُ في الله حقَّ جهادِه في إصلاحِ كلِّ ميادينِ الحياةِ, وفي سبيلِ بناءِ حضارة الرُّشْدِ والرَّشاد.
وفي تخليص الأمة من الاستعمار الأجنبيِّ الماديِّ والفكريِّ, وفي تحريرِ الدنيا من سيطرة قِيَمِ الماديَّةِ الباغيةِ, وتطهيرِ الحياةِ الإنسانيةِ ممَّنْ أرادها صراعًا وظلمًا وخرابًا وتدميرًا, ويحقق قولَ الله تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران: 79].
فالربَّانيُّ يتعلَّمُ ويعملُ ويُعَلِّمُ, ولذلك فهو -كما ذكر شيخ المفسرين الطبري رحمه الله- الجامعُ إلى العلمِ والفقهِ, البصرَ بالسياسةِ والتدبيرَ والقيامَ بأمورِ الرَّعِيَّة, وما يُصلِحُهم في دُنياهم ودينِهم.
وهذا هو التصوف الذي عرفتْه أجيالُ الهُدَى على طولِ التاريخ: تصفية وتربية, وبناء وتنمية, ودعوة وجهاد, وليس انكفاءً على الذات, ولا رفضًا للجهاد, ولا سلبيةً وقعودًا عن مناصرة الحق.
وَرُبَّ مُعْتَـزِلٍ لِلنَّاسِ مُعْتَكِـفٍ *** يَرَى أَنَّ اعْتِـزَالَ النَّاسِ إِسْـلامُ
هُمْ فِي بِحَارٍ مِنَ الأَوْرَادِ قَدْ غَرِقُوا *** وَبِالمَسَابـِحِ وَالتَّسْبِيحِ قَـدْ هَامُوا
وَاللهِ مـَا فَهِمُوا الإِسْلامَ أَوْ عَرَفُوا *** أَمْـرَ الإِلَهِ وَإِنْ صَلُّوا وَإِنْ صَامُوا
الدِّينُ يـَا قَـوْمُ فَرْضٌ ثُمَّ نَافِـلَةٌ *** وَالدِّينُ يَا قَـوْمُ مَيْدَانٌ وَصَمْصَامُ
وَالدِّينُ حَرْبٌ عَلَى الأَشْرَارِ يُشْهِرُهَا *** وَالمُسْلِمُ الحَـقُّ سَبَّـاقٌ وَمِقْدَامُ
تلك كلماتُ شاعرِ الدعوة الإسلامية الدكتور حسان حتحوت -رحمه الله- الذي تربَّى في مدرسةِ الإخوانِ المسلمينَ التي عُنِيَتْ أعظمَ عنايةٍ بالتربيةِ الروحيةِ للمنتسبين إليها, والتي عرَّف دعوتَها رائدُ الحركةِ الإسلاميةِ ومجدِّدُ القرن الرابع عشر الهجري الإمامُ الشهيدُ حسنُ البنا -رحمه الله- بأنها حقيقةٌ صوفيةٌ, إلى جانب كونِها طريقةً سُنِّيَّةً ودعوةً سلفيَّةً..
فكان مِن ثمارِ هذا الفهمِ الرائعِ كوكبةٌ من رجالاتِ الأمةِ حملتْ ولا تزالُ تحملُ رسالةَ الإسلامِ العظيمِ الصحيحةَ الوسطيَّةَ المعتدلةَ التي يُقَدِّمُها الأزهرُ المجيدُ إلى الدنيا.
فكانوا رجالَ صدقٍ وعَمَدَ إخلاصٍ, أصلحوا أنفسَهم واجتهدوا في دعوةِ أمتِهم, وجاهدوا بإسلامِهم وقرآنِهم, وقاتلوا الدنيا بالحبِّ كما أوصاهم الإمامُ الملهَمُ حسنُ البنا رحمه الله, فبعثوا مع العاملين المخلصين الحياةَ في الأمة من جديدٍ, وسَعَوْا مع كل الصادقين من أهلِ الفضل إلى تكوين جيلٍ من الرجال
يُحْيـُونَ لَيْلَهُمْ بِطَاعَـةِ رَبِّهِمْ *** بِتِـلاوَةٍ وَتَضَـرُّعٍ وَسُـؤَالِ
فِي اللَّيْلِ رُهْبَانٌ وَعِنْدَ جِهَادِهِمْ *** لِعَـدُوِّهِمْ مِنْ أَشْجَعِ الأَبْطَالِ
وكان من غرسِ أولئك الشرفاءِ المخلصينَ تلك الفئةُ المباركةُ من الشبابِ التي قادت الأمةَ نحو الحريةِ في ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة.
لهذا كانتْ سعادتي كبيرةً بالدعوةِ لحضورِ هذا المؤتمر الكريم (التصوف منهاج أصيل للإصلاح) الذي دعتْ إليه العشيرةُ المحمديةُ, والذي أرجو أن يكون مقدمةً ومدخلًا للتصوف الإيجابيِّ المتحركِ في المجتمعِ، الحاملِ لرسالةِ التصحيحِ والإصلاحِ إن شاء الله تعالى.
وإذا كان تاريخُنا البعيدُ والقريبُ يشهدُ بأن التصوفَ الأصيلَ كان له دورٌ عظيمٌ في كل المراحلِ المهمةِ، فإنه لا يكفينا أن نجترَّ هذا التاريخَ المجيدَ ونظلَّ نعلنُ اعتزازَنا بما قدَّم الأسلافُ والأجدادُ, بل لا بدَّ أن نُعيدَ سيرتَهم.
وما أزالُ أكرِّر دائمًا قولَ الأستاذِ عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله: "لَقَدْ مَلَّ آبَاؤُكُمْ مِنْ إِطْرَائِهِمْ, وَقَدْ سَمِعْتُهُمْ بِالأَمْسِ يَقُولُونَ: إِنَّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَفْخَرُونَ بِنَا فَإِنَّنَا لا نَفْخَرُ بِكُمْ؛ لأَنَّ الْعَمَالِقَةَ لا تَلِدُ أَقْزَامًا".
فأَقْبِلوا يا أبناءَ التصوف على العمل الصحيح الجادِّ الخالي من البدع, وارْمُوا بسهمِ الحقِّ الذي يُزْهِقُ الباطلَ؛ فإن سَلَفَكُم كان راميًا.
والحمد لله في الآخرة والأولى, وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الكاتب: د. عبد الرحمن البر
المصدر: موقع إخوان أون لاين